كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فلما صلوا بالتيمم جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة، فجعل يقول: ما هي بأوّل بركتكم يا آل أبي بكر، وفي رواية: «يرحمك اللّه يا عائشة، ما نزل بك أمر تكرهينه إلا جعل اللّه فيه للمسلمين فرجا»، وهذا يدلّ على أن سبب النزول كان في فقد الماء في السفر.
والسكر المذكور في الآية هو السكر من الشراب، بدليل ما ورد في سبب النزول، وبدهي أن النهي موجه إلى جماعة المؤمنين أن يقربوا الصلاة، وهم على هذا الحال، فإنها قد تجرهم إلى ما يضرهم في دينهم من حيث لا يشعرون، ولقد أثّر فيهم النهي أثره، فكانوا يمتنعون من الشراب إلى ما بعد صلاة العشاء، ولا معنى لا دعاء نسخ الآية، إذ المؤمنون ما زالوا منهيين أن يقربوا الصلاة وهم سكارى. ولم تؤثر آية المائدة في هذا النهي شيئا حتى يقال: إنها نسخته.
وقد اختلف العلماء في معنى الصلاة في قوله تعالى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} فذهب جماعة إلى أن المراد منها موضعها وهو المسجد، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود والحسن، وإليه ذهب الشافعي رضي اللّه عنه، والكلام إذا على حذف مضاف، وهو مجاز شائع، وقد عهد استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى في القرآن، كما في قوله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ} [الحج: 40] فقد فسرها ابن عباس بأنها كنائس اليهود.
ويؤيد حمل الصلاة على هذا المعنى أن اللّه تعالى يقول: {لا تَقْرَبُوا} والقرب والبعد أولى به أن يكون في المحسات، فحملناه على المسجد، ولأنّا لو حملناه على الصلاة لم يصح الاستثناء في قوله: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} حتى لو حملنا عابر السبيل على المسافر، لأنّ هذا الحكم حينئذ ليس خاصا بالمسافر، لأنّ كل من عجز عن استعمال الماء، سواء لفقده، أو عدم القدرة على استعماله كذلك، وأيضا فإنّ ظاهر النهي يدلّ على أنّ عابر السبيل ليس له أن يقرب الصلاة جنبا إلا بعد اغتسال، وهو إذا لم يجد الماء يقرب الصلاة كغيره بالتيمم.
وأيضا فقد ذكر اللّه في الآية حكم المسافر في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ} إلخ. فيكون ذلك تكرارا، فمن أجل ذلك حملنا لفظ الصلاة على المسجد.
وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة باقية على حقيقتها، والمعنى: لا تصلوا وأنتم سكارى، ولا أنتم جنب، إلا في حال كونكم مسافرين حتى تغتسلوا، ويكون ذكر هذا الحكم قبل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} تشويقا إلى بيان الحكم عند فقد الماء، فكأنه قيل:
فإن لم تقدروا على استعمال الماء فإني مبيّن حكم ذلك بقولي: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} إلى آخره.
ويقرب لهؤلاء ما ذهبوا إليه أن اللّه يقول: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} فإنّه يدل على أنّ المراد لا تقربوا نفس الصلاة، إذ المسجد ليس فيه قول مشروع يمنع السكر منه، أما الصلاة ففيها أقوال مشروعة يمنع السكر منها، وهي القراءة والدعاء والذكر، فكان حملها على ما يقتضيه ظاهر اللفظ أولى.
وقد ترتب على هذا خلافهم في حكم اجتياز المسجد للجنب، فمن ذهب إلى أن المراد من الصلاة موضعها، وهو المسجد، أخذ من الاستثناء أن الجنب ممنوع من المسجد إلا في حال العبور، فإنه يجوز له أن يعبر دون أن يمكث.
وأما على القول الثاني فيكون معنى الآية لا تقربوا الصلاة في حال السكر، ولا في حال الجنابة حتى تغتسلوا، إلا إذا كنتم مسافرين، وحكم ذلك سأقصه عليكم، أما حرمة دخول المسجد للجنب فيستدل عليها بمثل ما روت عائشة رضي اللّه عنها قالت جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ووجوه بيوت أصحابه شارعة في المسجد، فقال: «وجّهوا هذه البيوت عن المسجد، ثم دخل ولم يصنع القوم شيئا رجاء أن تنزل لهم رخصة، فخرج إليهم بعد وقال: وجّهوا هذه البيوت فإني لا أحلّ المسجد لجنب ولا حائض».
وغير هذا من الأدلة.
بقي أنّ بعض المفسرين يريد أن يأخذ من قوله: {حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ} وجوب القراءة في الصلاة، لأن الآية تنهى عن قرب الصلاة في حال السكر حتى يعلم المصلّي ما يقول: فلابد أن يكون الذي يقول شيئا يمنع منه السكر، ولا شيء سوى القراءة.
ولكنا إذا عرفنا أنّ الصلاة مناجاة ووقوف بين يدي مالك يوم الدين، العزيز القهار، كان معنى النهي لا تصلحوا حتى تكونوا على درجة من العلم والفهم تمكّنكم وتؤهّلكم للوقوف بين يدي ملك الملوك، وليس بنا حاجة لأن نلتمس دليلا على وجوب القراءة في الصلاة، لأن ذلك أمر متفق عليه، وأدلته كثيرة.
والجنب: اسم يستوي في الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وأصل الجنابة البعد، ويقال للذي يجب عليه الغسل من حدث الجنابة: جنب، لأنّ جنابته تبعده عن الصلاة وعن المسجد وقراءة القرآن حتى يتطّهر.
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُورًا}.
ذكرت هذه الآية والآية التي في المائدة: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية للتيمم أسبابا أربعة: المرض، والسفر، والمجيء من الغائط، وملامسة النساء، ورتبت عليها تيمم الصعيد الطيّب عند عدم وجود الماء فهما بظاهرهما تفيدان أنّ كلا من هذه الأسباب بمجرده يبيح التيمم عند عدم الماء.
فالسفر عند عدم الماء مبيح للتيمم، والمرض أيا كان نوعه مبيح للتيمم عند عدم الماء، وكذلك ملامسة النساء، والمجيء من الغائط، وقد جاء بيان السنة العملية كذلك موافقا لما يفيده النظم الكريم، حيث أجاز التيمم عند فقد الماء حقيقة لكل هؤلاء، غير أنّه زاد أن المريض إذا كان مرضه يمنعه من استعمال الماء جاز له التيمم، كما روي في حديث عمرو بن العاص رضي اللّه عنه أنه تيمم مع وجود الماء لخوف البرد فأجازه النبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم ولم ينكر، وقد اتفقوا على جوازه.
بقي أنه ما الفائدة إذا في ذكر السفر والمرض في جملة الأسباب ما دام المسافر والمريض والمقيم والصحيح سواء، لا يباح لهم التيمم إلا عند فقد الماء؟
قال المفسرون في هذا: أما المسافر فلما كان غالب حاله عدم وجود الماء جاء ذكره كأنه فاقد الماء وأما المريض فإنّ تعليق الحكم به مشعر بأن مرضه له مدخل في السببية، ولذلك ترى ابن عباس رضي اللّه عنهما وجماعة من التابعين يقولون في قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} أنه المجدور، ومن يضره الماء، وذلك أنّ المريض الذي لا يضره الماء لا معنى للترخيص له في التيمم، فذكر ليدل على أن مرضه حينئذ يقوم مقام عدم وجود الماء حقيقة، فلم يبق حينئذ إلا الجنب وما في معناه، والجائي من الغائط وما في معناه من غير المسافرين والمرضى، فهو إنما يباح لهم التيمم إذا فقدوا الماء.
وعلى هذا يكون قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} راجعا إلى الأخيرين فقط، وهما المجيء من الغائط، وملامسة النساء، وتكون أسباب التيمم المذكورة في الآية ثلاثة على الحقيقة: المرض، والسفر، وفقد الماء في حال الإقامة والصحة.
غير أنّ عطف هذه الأسباب بعضها على بعض بأو يقتضي أنها متقابلة، ومن قضية تقابلها أن يكون المسافر غير المريض، وكل منهما غير الجائي من الغائط والملامس، وذلك يقتضي أنّ السفر مبيح للتيمم، ولو من غير حدث، وكذلك المرض، مع أن التيمم لا يطلب إلا من المحدث.
وأجاب عن ذلك بعض العلماء بأن السبب في عدم ذكر الحدث مع المرض والسفر أنّ الكلام في الجنابة في السفر، حيث قال: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فحال الجنابة معهما ملحوظ، حيث هذا بيان للحكم إذا لم يتيسر الغسل من الجنابة لفقد الماء، وأما الحدث الأصغر فيهما فيعلم حكمه من حكم الجنابة لدلالة النص.
ومن العلماء من اختار في تأويل الآية رأيا آخر: فذهب إلى أنّ أَوْ في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بمعنى الواو، ويكون المعنى عليه: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا} ويكون ذلك في معنى قولك: إن كنتم مرضى أو مسافرين محدثين حدثا أصغر أو أكبر، وفقدتم الماء حقيقة أو حكما، بأن لم تقدروا على استعماله مع وجوده، فتيمموا صعيدا طيبا.
وقد جاءت أَوْ بمعنى الواو كثيرا كما في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147)} [الصافات: 147] فإن معناه ويزيدون، وكقوله: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما} [النساء: 135] معناه إن يكن غنيا وفقيرا فاللّه أولى بهما.
ونقل صاحب روح المعاني عن بعضهم أن في الآية تقديما وتأخيرا والتقدير: لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، ولا جنبا ولا جائيا أحد منكم من الغائط أو لامسا، يعني ولا محدثين، ثم قيل: وإن كنتم مرضى أو على سفر: فتيمموا وفيه الفصل بين الشرط والجزاء والمعطوف عليه من غير نكتة.
وأقرب هذه التأويلات هو ما حملنا عليه الآية في أول الأمر، وما ورد عليه- من أن ذلك يقتضي أن السفر بنفسه سبب، وكذا المرض ولو من غير حدث- يندفع متى روعي الكلام في أمر الطهارة من الأحداث، وأنها الغسل، انظر إلى قوله تعالى: {وَلا جُنُبًا إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فأمر الحدث أمر مقرّر مفروغ منه، إنما الكلام في الأعذار المبيحة للتيمم، ولا سبب في الحقيقة إلا فقد الماء، وفقد الماء له مظاهر، فمن مظاهره السفر، وعدم الماء فيه غالب، وإن وجد فأغلب أمره أن يكون محتاجا إليه، ومن مظاهره المرض، وجعل المرض من أسباب التيمم مشعر بأن ذلك إنما يكون في مرض لا يمكن معه استعمال الماء، والمظهر الحقيقي لفقد الماء أن يكون خاليا من هذه الأعذار، ثم لا تجد الماء وأنت محدث حدثا أصغر أو أكبر.
على هذا الوجه يصح أن تفهم الآية، ولا شيء في فهمها حينئذ من التكلف، ويليه أن تكون أَوْ في قوله: {أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} بمعنى الواو، والمعنى عليه قد عرفته.
ولنرجع إلى تفسير مفردات الآية:
{وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى} تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} فإن المعنى أنه لا يحل لكم القرب من الصلاة وأنتم جنب إلا بأن تكونوا عابري سبيل، وإلا أن تغتسلوا، ولما كان الغسل قد لا يمكن، شرع في بيان الطهارة الواجبة حينئذ، والأعذار التي تبيحها.
وفسر بعضهم قوله تعالى: {إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ} بمعنى إلا معذورين بعذر شرعي، وقد تقدم أن المراد بالمرض ما يمنع من استعمال الماء مطلقا، سواء كان لتعذر الوصول إليه أم لتعذر استعماله.
وقد أخرج ابن جريج عن ابن مسعود أنه قال: المريض الذي رخص له في التيمم الكسير والجريح، فإذا أصابته الجنابة لا يحل جراحته إلا جراحة لا يخشى عليها.
{أَوْ عَلى سَفَرٍ} أو مسافرين، والسفر الطويل هنا كالقصير، فإنّك عرفت أن ذكر السفر هنا لا دلالة له على شي ء، إذ المدار على فقد الماء، وإنما ذكر لأن فقد الماء معه غالب.
وبذكر المسافر هنا يستدلّ من ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة المسجد، وقد تقدم، وهو ظاهر، ومن ذهب إلى أن المراد الصلاة بحقيقتها الشرعية يقول: إنه إنما ذكر هنا مع فهمه مما تقدم لبناء الحكم الشرعي عليه، وبيان أن المريض مثله ومساو له في ذلك.
{أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ} الغائط هو المكان المطمئن من الأرض، والمجيء منه كناية عن الحدث، لأنّ العادة كانت أنّ من يريد قضاء الحاجة يذهب إليه ليواري شخصه عن أعين الناس.
{أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ} اختلف السلف رضوان اللّه عليهم أجمعين في المراد من الملامسة هنا، فقال علي وابن عباس وأبو موسى والحسن وعبيدة والشعبي: هي كناية عن الجماع، وكانوا لا يوجبون الوضوء ولا التيمم لمن مس امرأة.
وقال عمر وابن مسعود: المراد من الملامسة المسّ باليد، وكانا يوجبان على من مس امرأة الوضوء.
وقد اختلف فقهاء الأمصار في ذلك أيضا فقال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر والثوري والأوزاعي: لا وضوء على من مسّ امرأة، سواء أكان المس بشهوة، أو بغير شهوة.
وقال مالك: إن مسها بشهوة تلذّذا فعليه الوضوء، وكذا إن مسته بشهوة تلذذا.